
“الشاعر هو المكتشف في ميدان التجارب الإنسانية، وهو يتيح للآخرين فرصة التعرف على تلك التجارب من خلاله -مكتشفةً ومعبراًً عنها بعد العناء- بحيث تصبح وكأنها خبرتهم الذاتية، وبحيث يمثلونها”
(إرنست فيشر)
***
من بين الفنون الإبداعية يكون الشعر في المقدمة لما يلقاه لدى المتلقين من قبول مريح متى ما كان متحركاً ومواكباً في تعبيراته وصوره عن أشياء وحاجات الإنسان الكثيرة وأقربها إلى النفس ما يكسر حواجزها ويدخل إلى أعماقها متوغلاً في جوانياتها بملامسات شادة ومدهشة، تبعث على التساؤل المستمر، ويطلب المزيد من التوصيل حتى ولو كان ذلك جزئياً، ولكونه يعبر ويعكس صورة مستمدة من قدرات صاحب العمل الشعري الذي هو بدوره يعي عمله الفني المتمثل في أسلوبه الشعري ويعتمد على أن الشعر فن، والفن “لازم للإنسان حتى يفهم العالم، وهو لازم أيضاً بسبب السحر الكامن فيه” أو على رأي (أ . فيشر) صاحب الاقتباس السابق مشيراً إلى أن “عصر الفن يوشك أن يكون هو عمر الإنسان”، وكل هذا مما يؤكد على أهميته، وسر بقائه ومدى تأصل جذوره في حياة الإنسان منذ بداياته، ومواكباً تطوراته في النمو المستمر، وتاريخ الأدب يؤكد مدى مصداقية النمو المتصاعد للحركة الفنية بما فيها الشعر الذي هو من أهمها، فهو مستمر في تدفق العطاءات من قبل الشعراء، والتوالد بأشكال تمليها القدرات الكامنات في ذات المبدع، ومن ثم اختياره الطريقة التي يمكنه أن يعبر من خلالها ليصل إلى الغاية التي عمل من أجلها ومكث على مدى الأزمان ملازماً للإنسانية على مدى مراحل تحركاتها وتغيراتها، وتبعاً للبيئة التي يعيش فيها ناقلاً ومضيفاً، والأخيرة هي الضرورية لأن النقل لا يكون بالمعنى الحرفي للنقل والشف، وإنما النقل المعنوي الذي يشكل ويجسّد متطلبات الذات في مجسمات مدركة بالشعور والأحاسيس مما يكفل حالة التوالد المستمر، و”الفن سيختفي عندما تصل الحياة إلى درجة أعلى من التوازن، وهذا لن يحدث مادام الإنسان يتعلم، ويتخيل ويهيم، ويبرهن على ذلك في شرائح إبداعية يقدر بواسطتها أن يعبر عن أشيائه من خلالها وتلقى القبول من الآخذ الذي وُجِدَ هذا الشيء من أجله، إذ ينبع منه، ويعود إليه عن طريق صاحب الإبداع، وبواسطة العمل الشعري الفني الذي هو في حالة بحث استمراري لأسباب العطاء المتسق والمنسق مما أدى إلى حالة ما أطلق عليها “التجريب” تلك العبارة أو المصطلح التي تطلق بين حين وآخر، أو بشكل مستمر عند أهل الفن المبدعين الذين لا ينفكون يجربون ويعاودون التجريب في عطاءاتهم الفنية التي يمارسونها وسيظل الأمر كذلك.
فالتجريب، ولا أقول التجربة، مهم لأنه يكون ملازماً للأعمال الإبداعية المتأتية من الموهبة، والتخيل، والتعلم، في سباقه أبداً إلى اختراق الآفاق والابتعاد زمنياً، ومستقبلياً عن طريق التَّوقع ورسم الآني والآتي، ويجي ذلك في الأعمال المتتابعة للشاعر مثلاً أو الرسام، أو النحات، أو الموسيقار، أو الروائي، وهي (تجريبات) ذاتية محضة تتفاعل وتعتمل مع مزاج المعطي المبدع القادر ذي الموهبة وتزداد بالمران، والاطلاع والتواشج مع أسباب الحياة ومتطلباتها من منظور خاص وكيفما يراها المبدع، خلافاً للتجارب في العلوم التقنية التي هي كذلك تتطور باستمرار تبعاً للنظريات كالرياضيات، والطب والهندسة التي تقوم أساساً على إضافات حتمية يمليها واقع الحياة، وهذا يخص العلماء في هذه الشؤون العلمية البحتة.
مجالنا الذي نحن فيه يتمثل في التجريب الفني، إذ كثراً ما نسمع ونقرأ عن المسرح التجريبي، أو أن الشاعر، أو القاص، الروائي، أو الفنان في أعماله يجرب، ويتعامل مع التجريب وسيظل لكون الأعمال الفنية لكي تكون مواكبة للحياة لابد لها من الإضافة المستمرة وإلا توقفت وتلاشت، ولهذا كان التجريب في الخلق الإبداعي والشعري منه خاصة بحاجة إلى السعي باستمرار إلى توسيع دائرة المعرفة، ومعايشة المتناقضات والتقلبات عن طريق المتابعة والقراءة للاطلاع على ما يجري في الحركات الفنية، والإبداعات المتوالية على الساحة العامة في الداخل/ الخارج، ومزج ذلك بالقدرات الخاصة للإتيان بالجديد والمغاير الذي يعطي الخصوصية لصاحب العطاء ليكون التنوع الذي يدعو ويَشُد إلى المتابعة من قبل المستقبلين الباحثين عما يلامس نفسياتهم من تعابير توحي بالاطمئنان والراحة عند الخلود للراحة ومعاينة الذات عن كثب في مسيرة الحياة العامة والخاصة التي هي إطاره الذي يتصرف فيه كيف يشاء، ومن هنا تكون أهمية الفنون في تصوير حالة الإنسان بمتناقضاتها، والشعر مُصَوِرٌ بارعٌ لها عندما يكون مؤطراً بالصدق الفني.